حفل زفاف الى العالم الاخر

حفل زفاف الى العالم الاخر
*****************

يقول المؤرخ اليوناني القديم «هيرودت» إن من يشاهد مقابر الفراعنة العظيمة، وأعظمها على الإطلاق هو الأهرامات أكبر مقبرة في تاريخ البشرية، يكاد يظن أن الحضارة الفرعونية «حضارة أموات»! ولهذا السبب كانت لمواكب توديع الموتى أو ما نسميه حالياً «الجنازات» طقوس خاصة ومقدسة لدى الفراعنة، فهم ليسوا أبناء «حضارة موت» كما يلاحظ «هيرودت» بل أن العكس هو الصحيح، فقد كان الموت في العقيدة الفرعونية هو بداية الحياة الحقيقية، وكانت الجنازة أقرب إلى حفل زفاف!

وحسب وصف الباحث أحمد توفيق في كتابه «أغنيات الفراق.. تراث الحزن في صعيد مصر» كان المصريون القدماء يتوجهون بجسد الميت (بعد تحنيطه) في موكب يتجه إلى الشاطئ الشرقي للنيل حيث ينتظرهم أسطول صغير من القوارب، القارب الرئيسي به غرفة كبيرة مبطنة من الداخل بأقمشة في هذه الغرفة كان يوضع جسد الميت ومعه تماثيل: «إيزيس» و«نفتيس» الإلهتان الحاميتان للميت ويقوم الكاهن بحرق البخور.
وبعد عبور النيل إلى الشاطئ الغربي يستمر الموكب حتى يصل إلى قبر الميت وبعد عمل بعض الطقوس لا يبقى سوى إنزال التابوت والأثاث الجنائزي وترتيبه، فيوضع التابوت المصنوع على هيئة المومياء في تابوت آخر من الحجر يتخذ شكل حوض مستطيل ويوضع حوله عدة أشياء مثل العصي والأسلحة والتمائم، ثم يقفل التابوت الحجري بغطاء ثقيل ويوضع بجانبه الأواني الكانوبية الأربعة (هي الأواني التي توضع فيها أحشاء الميت وتتخذ أشكال أبناء حورس الأربعة) داخل صندوق خاص.
ثم توضع المواد الغذائية للمتوفى وهي عبارة عن إطارات من الخشب على شكل أوزوريس محنط وبداخلها كيس من القماش الخشن يملأ بخليط من الشعير والرمل ويسقى لعدة أيام فينبت الشعير وينمو كثيفاً وقوياً وعندما يصل طوله إلى 12-15سم كان يجفف ثم تلف الأعواد بما فيها من قطع من القماش، وأما الهدف من هذا العمل فهو حث المتوفى على العودة لأن أوزوريس في معتقداتهم قد أعيد إحياؤه من الموت بهذه الطريقة وكانت مقابر الملوك تزود فـي أواخر الدولة القديمة بمجموعة من نصوص الأدب الجنائزي مدونة في نقوش، وعمل الفراعنة فيما بعد على أن تكتب هذه الأوراد القديمة في توابيتهم.

*ولم يقتصر الأمر في الدولة الحديثة على تحلية جزء كبير من جدران المقابر بمثل هذه النصوص، وإنما كانت أيضاً توضع بجانب الميت برديات تحتوى على مثل تلك الأوراد، لأن معرفة هذه الأوراد، تجعل الفرد الذي يعرفها ينعم بالبركة، وهذه البرديات أو الأوراد هي التي تسمى «كتاب الموتى».
*وظهرت في نهاية الدولة الحديثة برديات أخرى تحتوى على كتاب «الأمدوات» الذي كان يطلب في بداية الأمر ليكون حماية نافعة للمقابر الملكية، وكانت هذه الأوراد أو هذه البرديات أو هذه الكتب الجنائزية في القرون المتعاقبة تعتبر شيئاً مقدساً، لأنها تتضمن عبارات قديمة مقدسة، وهكذا كانت تتسلل دائماً إلى هذه النصوص عناصر جديدة في العقائد والعادات الجنائزية وظلت تتطور على طريقتها نحو ألف عام.
وتمسكت الحضارة المصرية في عهد تدهورها بالتقاليد القديمة في الديانة وحرصت على استبقائها، وقد تم حشد الأنواع المختلفة للأدب الجنائزي وتقديمه للميت على برديات أو توابيت أو على جدران المقابر، والتي عادت بدورها إلى الظهور مرة أخرى على متون الأهرامات، وجمعت نصوص «كتاب الموتى» في كتاب واحد في قرطاس من البردي طوله عشرون متراً، كما سجل كتاب رحلة الشمس على التوابيت الحجرية الكبيرة، ومن هذه الكتب أيضاً: مراثي إيزيس ونفتيس لأخيهما أوزوريس.
وأوضح المؤرخ اليوناني هيرودوت أن المحنط كان قبل قيامه بتجهيز الجثة يعرض على المشتري ثلاثة نماذج خشبية للموميات مختلفة السعر. وتتجلى هذه الروح التجارية عند الذين يسند إليهم رعاية المقابر، وهم خلفاء الكهنة الجنائزيين، في الأزمنة القديمة ويتم تسميتهم «الكواخيتيون»، وهو اسم يوناني، ومن هنا كان الميت يعتبر رأس مال للقائمين على رعاية الجثث، فقد تعهد أحدهم أن يقوم بتلاوة الأدعية وبتقديم القربان بانتظام.
*ومن بين ما شاهده هيرودوت في مصر تلك الولولة الصاخبة يوم الوفاة، حيث كانت النساء يلطخن الرؤوس بالطين ويجبن المدينة لاطمات خدودهن، مولولات، ويطلق الرجال شعورهم ولحاهم، فقد كان المصريون في هذا العهد يرفعون شأن الأدب الجنائزي القديم ويرعون عادات أجدادهم وكان المصري يعتقد أن الميت لا يبقى سجيناً في قبره المظلم، بل يكون حراً أثناء النهار، يغادر قبره ويتجول كيف يشاء على الأرض وللحفاظ على نفسه من الأفاعى السامة والتماسيح والعقارب كان يتسلح بالتعاويذ السحرية، ويعتقد أن مخلوقاً آخر يؤوي جسم الإنسان ولا يرى في الحياة الدنيا، تلك هي الروح وتسمى عندهم «با» تلازم الجسم في الحياة وتفارقه عند الموت.

*أما ماء الفيضان وكان أكثر شئ يخافه المصريون، ويعتبرونه عدواً للقبور بعد اللصوص والنشالين، فكانوا يتحاشون دفن الميت في البقع الرطبة ويختارون المرتفعات في أراضى الصحراء الرملية والصخرية.
وكانت القبور عبارة عن حفر مستطيلة توضع الجثة فيها ويهال عليها الرمل، وكان قبر الملك بناءً ضخماً من اللبن مستطيل الشكل داخله عدة حجرات، وعلى مر الأيام ارتفعت هذه القبور حتى أخذت شكلاً هرمياً، فضلاً عن الأهرامات والمصاطب التي أخذ يقلدها عدد كبير من الحضارات، ابتدع الفراعنة شكلاً آخر من القبور يدعى (القبر الصخري) أخذت شكل البيت العادي (ساحة مكشوفة يتلوها ممر منحوت في أصل الجبل يرتكز سقفه على عمد ثم قاعة كبيرة منحوتة أيضاً في أصل الصخر تنتهى بحجرة صغيرة يوضع فيها تمثال المتوفى.
*وفي عهد الدولة القديمة (عصر بناة الأهرام) أصبحت الجثة توضع على جنبها كأنها نائمة وصار رأسها يوضع على وسادة (كما هو الحال الآن، حيث يتم وضع الميت على جانبه الأيمن)، وكانت الجثة نفسها تحنط بكل عناية، ومنذ الدولة القديمة ازدادت القرابين، وخصص الفراعنة بعض المقابر لدفن الحيوانات المقدسة، وكان العجل أبيس يدفن في مدافن خاصة ثم جاء رمسيس الثانى وبنى له قبراً عاماً أصبح فيما بعد كعبة للزائرين، وفي مدينة «بوبسطة» القديمة جبَّانة عظيمة للقطط كانوا يقومون بعبادتها، وفي منف مدافن عدة لطائر «مالك الحزين» المقدس، وفي «كوم أمبو» مدفن عظيم للتماسيح الكبيرة، كان يوضع الحيوان المقدس في تابوت وتنصب لوحة منقوشة على قبره.


بقلم الباحث والكاتب فى علم المصريات/محمود البيومى غريب

Comments

Popular posts from this blog

التبادل السياحى بين مصر ومملكة أطلنتس

السياحة المستدامه. والتعاون الدولي